الفصل الثالث
الصوم والتجاربنحن نجرب مراراً وتكراراً بطول الحياة...
وربنا يسوع له المجد جاز تجارب عديدة ليشاركنا حياتنا بحلوها ومرها وليست تجارب الرب يسوع محصورة فى تجربته على الجبل فقط.
بل تجرب مرة بحب الزعامة ولكنه أجاب "مملكتى ليست من هذا العالم" (يو 26:18).
وجرب بترك الصليب "أن كنت ابن الله؛ فانزل عن الصليب لنرى ونؤمن بك" (مت 41:27)، وأيضاً انتصر؛ لأنه لم يترك الصليب بل شرب الكأس حتى النهاية.
جرب الرب يسوع بخيانة يهوذا ولكنه لم يفقد الحب.
جرب بتأفف الفريسيين، وتذمرهم منه، وتألبهم عليه، وكراهيتهم له... ولكنه لم يفقد صبره تجاههم أو محبته لهم.
جرب بموت صديقه ونسيبه وسابقه يوحنا المعمدان.. الذى مات شهيداً بسيف الظلم... ولم يتراجع يسوعنا القدوس عن رسالته.
جرب فى حداثته وطفولته بغلاظة هيرودس.. ولكنه هرب من وجه الشر بكل قوة.
ستقول لى إذا "هو الرب المنتصر". ولا مجال للمقارنة بينه وبيننا.
أجيبك - صديقى - لا تنسى أنه تجسد وشابهنا فى كل شئ..
فهو تجرب :
أولاً: لأنه إنسان كامل مثلنا (شابهنا فى كل شئ ما عدا الخطية والسقوط).
ثانياً: ليعلمنا الطريق إلى النصرة (بالصوم والخلوة والصلاة وكلمة الله).
ثالثاً: ليشجعنا بنصرته.. ففيه نرى نهاية الطريق منيراً... إذ سبقنا إليه ليكشف لنا أنه هناك منتصرون.
رابعاً: لكى نتوقع التجارب ولا ننزعج لحدوثها.. "أن كانوا قد اضطهدونى؛ فسيضطهدونكم" (يو 20:15)، "إن كانوا بالعود الرطب يفعلون هذا فماذا يكون باليابس؟" (لو 31:23).
جاء إبليس إليه وهو جائع، الجسد الجائع كان طُعماً لإبليس.
الجوع خدع إبليس..، فبدا يسوع ضعيفاً.. ولكنه كان قوياً بالجوع.
"هذا الجنس لا يمكن أن يخرج بشئ إلا بالصلاة والصوم" (مر 29:9).
الجوع خدع الشيطان.. ولم يدرى أن ضعف الجوع سيبيد قوته ويحطم كبرياءه.
لذلك دنا المجرب من رب المجد وقال له "أن كنت ابن الله؛ فقل أن تصير هذه الحجارة خبزاً" (مت 3:4) أن جوع المسيح أثار شكوك الشيطان هل الله يجوع؟
لقد سمع وقت المعمودية صوت الآب قائلاً: "هذا هو ابنى الحبيب الذى به سررت" (مت 17:3) فهل ابن الآب يجوع؟
أما الرب يسوع فأراد أن يهزم إبليس لا بعمل المعجزة (تحويل الحجارة إلى خبز) بل بالتواضع.
أراد إبليس أن يحاربه بالماديات.. لأن جذب الناس إلى المادة يهزمهم، ولكن الرب يسوع رفع ذهننا إلى الروحيات والسماويات.
لم يرفض الرب يسوع الأكل.. ولكنه رفض ربط الأكل بالحياة "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان" (مت 4:4).
فى مواقف أخرى رأينا المسيح يأكل، بل بارك فى طعام الخمسة آلاف رجل ماعدا النساء والأطفال (مت 21:14) وعندما أقام الصبية طلب أن تعطى لتأكل ليؤكد قيامتها (لو 55:
.
الله لا يرى فى الأكل مشكلة.. بالعكس هو أعطانا خير الأرض، وسلطنا على الحيوانات لنأكل منها ونشبع ونفرح.. ولكن ليس معنى هذا أننا نعيش لنأكل.
الشيطان يحاول جاهداً أن يوهمنا بحتمية الأرض لحياتنا.. ولكن السماء هى ينبوع الحياة والخلود.. ليس الخبز البائد بل الطعام الباقى للحياة الأبدية.
فهل يحيا الإنسان إلى الأبد لو أكل أم إذا أطاع الله؟
الأكل لا يعفينا من الموت، بل المسيح وحده فيه الحياة الدائمة إلى الأبد.
بدأ إبليس يغير أسلوبه ويغير تجربته.
فهو (فتال حبال) كما قال الآباء.. ينسج لنا الشبكة بكل دهاء ومكر وطول بال.. ويتلون بكل لون لكى يخدع السلماء..
فهذا يحاربه بشهوة الجسد.. وآخر يتسلط عليه بحب المال.. وثالث يسقطه بالكبرياء.. والمتدينون يدخلهم فى تجربة التصلف وحب السيطرة.. والتعالى... أسلحته كثيرة.
بعد هزيمته فى تجربة الخبز.. حاول أن يعرض الرب إلى تجربة التباهى والافتخار. التجربة الأولى كانت فى البرية.. والثانية فى أورشليم.
تلك كانت فى العزلة والوحدة.. وهذه فى بيت الله ووسط التجمع البشرى وزحمة الناس. الراهب يحارب بالشهوة.. والخادم يحُارب بالافتخار.
وكأنى إبليس يقول للرب يسوع: ما قيمة الخبز فى البرية بالنسبة إلى تبشير الناس وإيمانهم بك؟.. هناك فى عزلة.. حتى ولو عملت معجزة الخبز؛ فلن يراك أحد أو يؤمن بك... هنا وسط الناس يمكن أن يروا عظمتك وقوتك.. أنا أعرف أنك أتيت إلى خاصتك.. وهذه فرصة عظيمة لجذبهم إليك.. لا داعى لقصة طويلة من التعب والتجوال وبالآخر الصليب... يكفى أن تكون جذاباً أمامهم لتستولى على عقولهم وحياتهم.
أليس بهذا الإيحاء يحارب إبليس كثيراً من الخدام.. يكفى أن تكون جذاباً... ولا داعى للتعب الكثير وأترك عنك الصليب.
يجيب الرب يسوع (فى موضع آخر): "ولا إن قام واحد من الأموات يصدقون" (لو 31:16) هذه تجربة تخص خدام المسيح.. عليهم أن ينجحوا فى خدمتهم بالاتضاع والتعب والصليب.
الشيطان يريد أن العمل الكرازى يقوم على قاعدة السحر، ولفت النظر والإبهار.. مع أن الرب يسوع نفسه لم يكن يعمل آيات فى بعض الأماكن لعدم إيمانهم.. لم يكن المسيح محباً للاستعراض.
إبليس يفهم أن البشارة معناها دعوة توجه إلى الناس لاستقطاب العدد الأكبر منهم. هذه تجربة نسقط فيها كثيراً.. ليست العبرة بالإعداد الكبيرة.. بل بخلاص النفس.
لاحظ أخيراً معى كيف اقتبس الشيطان الآية بطريقة مبتورة تغير معناها؛ فالآية فى أصلها: "لأنه يوصى ملائكته بك لكى يحفظوك فى كل طرقك، على الأيدى يحملونك لئلا تصدم بحجر رجلك" (مز 11:91).
فالملائكة يحفظونك فى كل طرقك، وليس عندما تلقى نفسك إلى أسفل. دعنا نقرأ الآيات بطريقة صحيحة، ونعرف معناها كما قصد الله... وليس كالشيطان الذى يغير المعنى ليضلل الناس.
التجربة الأولى كانت فى برية النساك (الجسد).
والتجربة الثانية فى هيكل المتدينين الخدام (الذات).
أما التجربة الثالثة فهى تجربة العلمانيين.. (حب القنية).
من أعنف تجارب الحياة تجربة حب القنية.
فحتى الطفل الصغير محب للقنية دون أن يدرى.. فهو يظن أن كل شئ ملكه الإنسان يحب الأرض، والبيوت والسيارات، والممتلكات، والأرصدة فى البنوك. ويرغب الإنسان فى أن يستولى على كل شئ؛ ليكون لحسابه.
أليست هذه تجربة نقع فيها جميعاً.. إذا مررت بجانب قصر ضخم ألا تتمنى أن يكون لك.. أن رأيت سيارة فارهة ألا ترغب فى أن تقتنيها..
أن العالم اليوم يسعى نحو الاستهلاك.
قلما نفكر فى أننا سنغادر العالم عراة.
نحن لا نمتلك شيئاً، بل نؤتمن على ما فى ايدينا من خيرات.
مكان التجربة الآن هو جبل عال.. ليست برية النساك، ولا هيكل المتدينين ولكن جبل العلمانيين.. أنها تجربة أهل العالم الراغبين فى صعود جبال الشهرة وتخليد الأسماء.. وجبال الثروة والممتلكات.
إبليس مستعد أن يعطى الناس فى مقابل أن يسجدوا له، ويستعبدهم، فالرشوة والغش وسبل الشر قد تغنى الناس بالمال، لكنها تسحب منهم إنسانيتهم والحب وتجعلهم فقراء فى الأخلاق.. وبالنهاية فقراء حتى فى المال.
الجواب الوحيد المنتصر هو "إذهب عنى يا شيطان" لا للغش، لا للرشوة، لا للمال الذى من يد الشيطان.
فالرب وحده هو الشبع.
والنفس الشبعانة (بالمسيح) تدوس العسل (العالم بكل ما فيه).
والشيطان لا يعطى إلا سراباً ووهما وغنى لا يسعد بل يتعس.
حلاوة القنية فى التعب وليس فى الغش.
حلاوة النجاح فى الجهاد الذى يسبقه وليس فى الخداع.
سعادة النصرة فى معاناة الحرب الممهدة لها، وليس فى الهروب من الصليب... أراد إبليس أن يخضع العالم له بالاغراء المادى.
ولكن يسوعنا واقف ليشبعنا بخيره الأبدى حتى لا نحتاج الخرنوب الذى تأكله الخنازير.
صديقى الصائم مع المسيح
دعنا نفرح بنصرة المسيح فينا ولنا
على كل تجربة، وعلى كل خداع العدو
فيه وبه ننتصر على الجسد بكل ضعفاته ونداءاته المنحرفة
وننتصر على وهم الكبرياء الذى أسقط ملائكة
وننتصر على سراب الغنى الذى يذل الناس ويسلبهم أدميتهم
"شكراً الله الذى يقودنا فى موكب نصرته فى المسيح كل حين" (2كو 14:2).
اذكرونا واذكروا الخدمة فى صلواتكم
امــــــــــ+ــــــــــــين