الصوم الكبير والمعمودية
المعمودية والصليب والقيامة
أن المعمودية المسيحية هى موت ودفن وقيامة مع المسيح؛ فيقول معلمنا بولس الرسول: "نحن الذين متنا عن الخطية. كيف نعيش بعد فيها؟. أم تجهلون أننا كل من اعتمد ليسوع المسيح، اعتمدنا لموته، فدفنا معه بالمعمودية للموت، حتى كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب، هكذا نسلك نحن أيضاً فى جدة الحياة؛ لأنه أن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته، نصير أيضاً بقيامته" (رو 6: 3-5).
لذلك فقد كانت أنسب فرصة لمعمودية الموعوظين فى العصور الأولى، هى ليلة عيد القيامة، حيث الموت والقيامة فعلاً مع المسيح.
يقول فى ذلك العلامة ترتليانوس: "الفصح هو أكثر الأيام ملاءمة لإقامة المعمودية، ففيه تمت آلام الرب وإليها نعتمد..." (فى المعمودية 19).
وما زالت "الزفة" التى نعملها للمعمدين فى الكنيسة، هى نفسها دورة القيامة التى كانوا يشتركون فيها عقب معموديتهم ليلة العيد.
والكنيسة فى اختيارها لقراءات عيد القيامة فى القطمارس، لم تغفل ارتباط القيامة بالمعمودية؛ ففى فصل الكاثوليكون يورد معلمنا بطرس الرسول مقارنته الشهيرة بين الطوفان والمعمودية: "إذ كان الفلك يبنى، الذى فيه خلص قليلون، أى ثمانى أنفس بالماء، الذى مثاله يخلصنا نحن الآن، أى المعمودية. لا إزالة وسخ الجسد، بل سؤال ضمير صالح عن الله بقيامة يسوع المسيح" (1بط 3: 20-21).
وفى فصل البولس يورد معلمنا بولس مقارنة بين بنى القيامة (المعمدين) وبنى الموت "ليس الروحانى أولاً (المولود من الروح بالمعمودية) بل الحيوانى (المولود بالجسد من أبويه)، وبعد ذلك الروحانى... وكما لبسنا صورة الترابى (آدم) سنلبس أيضاً صورة السماوى (المسيح ... فى المعمودية بالعربون، وفى الأبدية بالحقيقة)، فأقول هذا أيها الأخوة: أن لحماً ودماً لا يقدران أن يرثا ملكوت الله (المولود حسب الجسد) ولا يرث الفاسد (بدون المعمودية) عدم الفساد (الأبدية)" (1كو 15: 46-50)، لاحظ أن نفس التعبير استخدمه الرب يسوع فى حواره مع نيقوديموس: "الحق الحق أقول لك إن كان أحد، لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله... المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح" (يو 3: 3-6).
وحقيقة الأمر أن الكنيسة كانت تبذل جهداً كبيراً فى إعداد الموعوظين للمعمودية، ثم تقدمهم للأب الأسقف ليختبر جدية نواياهم، وصدق إيمانهم.. ثم يسجل أسماءهم فى سجل الموعوظين، الذى يسميه القديس يوحنا ذهبى الفم "السفر السماوى" أو "سفر الحياة" ، ثم يرسم الأب الأسقف على جبهة الموعوظ إشارة الصليب، ويباركه... وكان هذا التسجيل يتم - أيام القديس يوحنا ذهبى الفم - فى بداية الصوم الكبير... ويستمر الموعوظون طيلة الصوم الكبير يتلقون تعاليم الكنيسة، خاصة ما يختص بسر المعمودية، وفعلها فى حياتهم، حتى ينتهى الصوم المقدس بالبصخة فالقيامة، فيتم تعميدهم ليكونوا بالحقيقة قد ماتوا وقاموا مع الرب يسوع المسيح له المجد.
والملاحظ أن ترتيب قراءات آحاد الصوم الكبير المقدس قد جاءت بإلهام إلهى تشرح طقس المعمودية، وفعلها فى تغيير وتجديد طبيعة الإنسان وفى تبنيه لله الأب وفى استنارته وفى منحه الحياة الأبدية.
أ- أحد الرفاع (مت 6: 1-18) :
تعلمنا الكنيسة المقدسة فى أحد الرفاع المنهج المسيحى فى الحياة، ويقوم على (الصدقة - والصلاة - والصوم) وكأنها تهمس فى أذن الموعوظ.. "صديقى.. ستكون معنا - بالمعمودية - وستسلك كما يليق بهذه المعمودية: الصدقة هى الزهد فى المال والقنية.. والصلاة هى جحد الذات وكسر المشيئة... والصوم هو ضبط الجسد"... الكنيسة تضع أمام الموعوظ علامات الطريق، وسر النصرة.. وتميز له ما بين ممارسة المسيحية، والممارسة التى كان يعيش فيها قبل المعمودية سواء كان وثنياً أم يهودياً... فالمسيحية تعرف الخفاء فى الممارسة.. والعلاقة الباطنية بين الابن (بالمعمودية) والآب السماوى الذى يرى فى الخفاء...
ب- الأحد الأول (مت 19:6-34) (أحد الكنوز):
فى بداية الطريق... تضع الكنيسة الحافز المناسب أمام الموعوظ لئلا يخور ويتراجع... إن كنا قد علمناه فى أحد الرفاع أن يتخلى عن (المال - الذات - الجسد).
فلنضع أمامه الآن المكافأة: أنها الكنز السماوى الذى لا يفسد ولا يسرق...
ثم تشرح الكنيسة للموعوظ قيمة التمسك بهذا الكنز السماوى...
- العين تكون مستنيرة بالبساطة (المعمودية هى سر الاستنارة).
- الله سيهتم باحتياجاتى (أبوكم السماوى يقوتها).
- نفوز بملكوت السموات (اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره... وهذه كلها تزاد لكم).
فالمعمودية تنقل الإنسان من سيرة علمانية إلى سيرة سمائية روحانية... السيرة العلمانية تقوم على كنوز الأرض وعبودية المال، والعين الشريرة والاهتمامات المفسدة الرديئة...
فلا نكون مثلهم بل لنا الكنز السماوى، وخدمة المسيح، والعين البسيطة والاهتمامات الأخروية لأننا صرنا أبناء الملكوت، وأبناء النور بالمعمودية.
ج- الأحد الثانى (مت 4: 1-11) (أحد التجربة) :
بعد إعداد الموعوظين بوعظهم، والصلاة عليهم (كما بطقس المعمودية)، تتمم الكنيسة لهم طقس جحد الشيطان، وكما انتصر السيد المسيح على الشيطان فى ثلاثة تجارب، كذلك يصرخ الموعوظ فى وجه الشيطان (نحو الغرب) قائلاً "أجحدك.. أجحدك.. أجحدك". أنها نفس النصرة التى فاز بها الرب يسوع لنا على الجبل.
لقد انتصر الرب يسوع فى تجارب الجسد (الحجارة تصير خبزاً)، والمجد الباطل (اطرح نفسك إلى أسفل)، وتجربة القنية (أعطيك هذه جميعها).. وهى نفس مواطن الضعف التى يحارب بها أبليس كل أولاد الله (الجسد - الذات - القنية)؛ لذلك فسبق لنا أن نتسلح ضد هذه الهجمات بأسلحة (الصوم - الصلاة - الصدقة).. إننا فى سر المعمودية نصرخ مع المسيح (أذهب يا شيطان). فيتركنا مهزوماً... ولكنه "إلى حين" (لو13:4)، لأنه سيعاود حربنا، ولن يتركنا نهائياً إلا عندما نخلع الجسد، ونحتمى فى الفردوس بالحقيقة، حيث تنتهى الحرب ، وتعلن النصرة فى الأبدية السعيدة.
د- الأحد الثالث (لو 15: 11-32) (الابن الشاطر):
إن قصة الابن الضال هى شرح رائع لسر المعمودية.. فالمعمودية هى استعادة التبنى لله الآب.. لقد كان الإنسان أصلاً ابناً لله (بالتبنى)، فقد قيل عن آدم أنه "ابن الله" (لو 38:3).
ولكن أدم فقد بنوته بسبب ضلالته، وانفصاله عن الله، وعيشه بعيداً بعيش مسرف فى الخطية.. والموعوظ فى توجهه للمعمودية، كأنه يقول مع الابن الضال: "أقوم وأذهب إلى أبى" (لو 18:15).
إن الآب السماوى ما زال يحمل لنا مشاعر الأبوة ، وسوف يغدقها علينا فى المعمودية (الحلة الأولى).. فقال الأب لعبيده (الكهنة): "أخرجوا الحلة الأولى والبسوه (المعمودية هى لباس المسيح)" واجعلوا خاتماً فى يده (الميرون ختم الروح القدس)، "وحذاء فى رجليه" (الإنجيل الذى ينير الطريق ويهدى الخطوات): "حاذين أرجلكم باستعداد إنجيل السلام" (أف15:6)، "وقدموا العجل المسمن، وأذبحوه" (وليمة الافخارستياً التى يشترك فيها الأبناء فقط)، "فنأكل ونفرح" (بالتسبيح الدائم والشركة المقدسة فى الكنيسة) "لأن ابنى هذا كان ميتاً فعاش" (المعمودية موت وقيامة) "وكان ضالاً فوجد"..
الابن الأكبر هو رمز لليهود، الذين لهم علاقة مع الله منذ زمن بعيد، والابن الأصغر هو رمز للأمم الذين جاءوا متأخرين...
الابن الأكبر كان يعيش مع والده ولكن ليس بقلبه.. لذلك لم يكن فكره ولا قلبه كأبيه نحو الأخ الأصغر،... بل تذمر كما تذمر اليهود عند قبول الأمم فى المعمودية (راجع فى ذلك قصة قبول كرنيليوس فى الإيمان والمعمودية، وكيف خاصم المسيحيون من أصل يهودى - معلمنا بطرس لأنه قبل الأمم، وكيف شرح لهم بطرس الرسول قصة إعلان الله له قبول الأمم (أع 10،11).. ولكن الآب السماوى يطمئن قلوب الموعوظين (الابن الأصغر) "كان ينبغى أن نفرح ونسر لأن أخاك هذا كان ميتاً (بفساد الطبيعة) فعاش (بالمعمودية) وكان ضالاً فوجد".
هـ- الأحد الرابع (يو 4: 1-42) (السامرية):
السامرية جاءت لتشرب من ماء غير مرو، فقابلها يسوع وقال لها "لو كنت تعلمين عطية الله (المعمودية)... لطلبت أنت منه فأعطاك ماء حياً.... كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً، ولكن من يشرب من الماء الذى أعطيه أنا، فلن يعطش إلى الأبد (لا تعاد معموديته). بل الماء الذى أعطيه، يصير فيه ينبوع ماء (الروح القدس) ينبع إلى حياة أبدية".
جاءت السامرية لتشرب من بئر يعقوب وقلبها متعلق بخمسة أزواج وأخر ليس زوجاً.. فوجدت هناك بئر يسوع (المعمودية) والعريس الأوحد مخلص كل البشرية...
لقد رفع يسوع ذهنها إلى الحياة بالروح والحق، التى تليق بالمسيحيين؛ ليفطم قلبها من عبادة الحرف التى تليق باليهود والوثنيين... أن المعمودية حد فاصل...
و- الأحد الخامس (يو 5: 1-18) (المخلع):
لقد كان هذا الرجل مريضا منذ زمان، رمزاً للبشرية التى تعانى من فساد الطبيعة منذ أدم.. وكان ملقى مطروحا عند البركة (رمزاً للمعمودية) يتوقع تحريك الماء مع باقى البشرية المريضة - "جمهور كثير من المرضى عمى وعرج وعسم لأن ملاكاً (رمزاً للروح القدس) كان ينزل أحياناً فى البركة، ويحرك الماء.. فمن نزل أولاً بعد تحريك الماء (الماء والروح)، كان يبرأ من أى مرض أعتراه (البرء من فساد الطبيعة)"..
والخمسة أروقة التى كانوا مطروحين فيها دون شفاء، لعلها تشير إلى إمكانيات العهد القديم التى كان - على غناها وغزارتها- عاجزة عن تخليص الإنسان، فأسفار موسى الخمسة، وأنواع الذبائح الخمسة لم تكن كافية لبرء الإنسان.. جاء يسوع ليخلصنا بالمعمودية، ولكنه يسأل الإنسان (أتريد أن تبرأ)؟، كما يسأل الكاهن الموعوظ (هل آمنت)؟
ى- فى الأحد السادس (يو1:9-41) (المولود أعمى):
ومعجزة المولود أعمى هى قصة معمودية بكل تفاصيلها.. فالرجل ولد مشوهاً رمزاً للطبيعة الفاسدة، التى نولد بها من آدم وحواء.. وجاء الرب يسوع ليعيد خلقة الإنسان، ويجددها، لذلك فقد استخدم - بصفته الخالق - عناصر خلق الإنسان الأول نفسها.. (الطين).. وقال أذهب اغتسل فى بركة سلوام (المعمودية).. فمضى واغتسل وأتى بصيراً (سر الاستنارة).. ونتيجة هذه المعمودية انفصل هذا الرجل عن مجمع اليهود وصار فى مجمع المسيح (الكنيسة).
ز- الأحد السابع الشعانين :
بعد أن شرحت الكنيسة للموعوظين فعل المعمودية فى حياتهم: التبنى (الابن الضال)، ماء الحياة (السامرية)، البرء من الطبيعة الفاسدة (المخلع)، والاستنارة (المولود أعمى).
الآن تقتادهم ليروا المجد المعد لهم فى ملكوت الآب السماوى، سندخل أورشليم فى موكب المسيح، وسنهتف منتصرين حاملين سعف النخل.. وسننتمى إلى مملكة داود الروحية الحقيقية، ولكن هناك صليب سيقابلنا، وآلام لابد أن نجتازها.. وما يشجعنا ويعزينا أن هناك قيامة بعد الصليب.. وهناك المجد بعد الهوان.. وهناك النصرة بعد الحرب.
اذكرونا واذكروا الخدمة فى صلواتكم
امــــــــــــــ+ـــــــــــــــــين